اصلاح ديني

عن الاصلاح الديني الجذري للإسلام

منذ أكثر من قرن والحديث عن الإصلاح الديني ـ بهذه الصفة: الإصلاح الديني ـ يتكرر على ألسنة المعنيين بحركة النهوض الإسلامي؛ بعد أن استوعب معظم المسلمين حجم التخلف المروع الذي يغرق فيه العالم الإسلامي على امتداد جهاته الأربع. في كل قطْر مركزي من هذا العالم المنكوب بتخلفه الطويل، يتكرر هذا “العنوان التقدمي: الإصلاح الديني” الذي يعكس هموم اللحظة التاريخية على نطاق واسع؛ مما يوحي بأن ثمة إجماعا نسبيا على أن “نمط التصورات الذهنية الدينية” التي تحكم مجمل الوعي العام للمسلمين هو المسؤول عن هذا التخلف، أو هو ـ على أقل تقدير ـ المسؤول عن “طبيعة الاستجابة” للتحدي الحضاري المعاصر، تلك الاستجابة التي تحدد طبيعتها مسار الخيارات الكبرى التي تصنع التاريخ الخاص/ الواقع الخاص.

من المهم التأكيد على أننا لا نتحدث هنا عن الإصلاح الديني الخافت/ البعثي/ الإحيائي، الذي طرحته تلك الحركات التقليدية التي كانت تحاول التماهي ـ بادعاء التطابق التام ـ مع التجربة الأولى/ مع الحقيقة الأولى، أو على الأقل، بالتماهي مع عصر تتوهمه العصر المثالي لتموضع الإسلام في الواقع. فهذه الحركات وإن كانت تتوفر على شيء من الإيجابية في قدرتها على تحريك السكون/ الجمود الاجتماعي، إلا أنها لا تستطيع تقديم شيء ذي بال يضمن للمسلمين التصالح مع هذا العصر/ هذا العالم المختلف جذريا عن كل عوالم التاريخ السابقة. كل ما تقدمه هذه الحركات الإصلاحية/ الإحيائية من إجابات/ مقترحات، هي إجابات صالحة ـ وإلى حد ما ـ لتكون استجابة لأسئلة الماضي، لا أسئلة الحاضر التي تحتاج لمنطق جديد يختلف تماما عن منطق أسلافنا الكرام.هذا النقد الذي يُنتظر أن يقوم به الباحثون الأفذاذ على نطاق واسع يجعل هذا التراث الديني غير صالح لاستخدامه من قبل الأصوليين المتطرفين

​​لا بد أن يبدأ الإصلاح الديني من نقد البنى العامة/ الكلية للرؤية الدينية السائدة، ومن ثم إلى إجراء تغييرات جذرية وشاملة على مجمل الأنظمة الحاكمة للسلوكيات العامة. لا يجدي أن يظهر بين الحين والآخر تطور في هذه المسألة الدينية/ الجزئية، أو تلك، في هذا الظرف العابر أو ذاك، كما لا يجدي أن يقوم بهذا الإصلاح المنتظر بضعة أشخاص ـ معزولين أو شبه معزولين ـ يحدثون إلى الناس من خارج المؤسسات والمرجعيات الكبرى الموثوقة على امتداد العالم الإسلامي.

فهؤلاء الأشخاص/ الأفراد المجتهدون حتى وإن تقدموا باجتهادات تجديدية/ إصلاحية تطال مجمل الرؤى الدينية، فإنهم، ومهما كانت درجة ذكائهم وأصالة ما يطرحون، لن يستطيعوا كسر المغلقات الذهنية الصلبة التي تحكم وعي الجماهير، وبالتالي لن يستطيعوا التأثير على مجرى التاريخ الخاص بالـ”أنا”، على الأقل في المدى المنظور المحكوم إلى حد كبير بخيار الجماهير في زمن الجماهير.

اقرأ للكاتب أيضا: إشكالية الجهاد في الخطاب الإسلامي

مع هذا، لا ينبغي التقليل من أهمية هذه الجهود النادرة التي يقوم بها باحثون كبار، إذ على الرغم من ندرتها وعزلتها تبقى محفزة للخطاب الثقافي الأوسع/ الأعم، وهو بدوره محفز لكثير من المتطلعين للتغيير والتجديد داخل النسق الديني، أقصد أولئك المتدينين/ رجال الدين الذين يدركون ـ بدرجة ما ـ أزمة الخطاب الديني ذاته؛ بقدر ما يدركون أزمة الواقع الاجتماعي الإسلامي في علاقته بالعصر؛ وعلاقة الخطاب الديني العضوية بهذا التأزم المزمن.

تتضاءل فرصة ظهور عدد كبير من المناضلين الفكريين/ الثقافيين المراهنين على الإصلاح الديني؛ لخطورة من يتعرض لهذا الأمر، ولسبب آخر قد لا يكون واضحا، ألا وهو: عدم وعي كثير من المُشتغلين بالحقلين الفكري والثقافي، فضلا عن الحقل الديني، بالدور المحوري الذي يمكن أن يؤديه الإصلاح الديني في مسيرة النهوض/ التحديث، والعكس صحيح بطبيعة الحال.

يحاول العالم الإسلامي اليوم الخروج من “العصور الوسطى الإسلامية” التي تشبه ـ إلى حد كبير، وفي معظم المسارات الدينية والمجتمعية ـ العصور الوسطى الأوروبية التي تجاوزتها أوروبا منذ أربعة قرون أو أكثر. لكن، تبقى المؤسسات والمرجعيات الكبرى، الدينية والثقافية، عاجزة عن تقديم الشرط الأساسي والأولي لهذا الخروج المنتظر/ الضروري، وهو: نقد/ تفكيك التراث.يحاول العالم الإسلامي اليوم الخروج من “العصور الوسطى الإسلامية” التي تشبه العصور الوسطى الأوروبية التي تجاوزتها أوروبا منذ أربعة قرون أو أكثر

​​هناك من يتعاطى مع هذا الموضوع الخطير بسذاجة بالغة، فيشير إلى حالات التمرد الجماهيري على الخطابات الدينية التقليدية بوصفها ظواهر عامة تعكس بوادر إصلاح ديني مضمر في السياق المجتمعي. والحق أن هذه ظواهر ساذجة، عائمة وعشوائية، وبالتالي؛ غير قادرة على بلورة رؤية عامة/ شاملة، تستطيع من خلالها امتلاك القدرة على مساءلة القناعات الراسخة/ المضادة من جهة، كما تستطيع ضمان القدرة على الاستمرار في الاتجاه ذاته من جهة أخرى. وحيث هي كذلك، فإن عودتها/ الجماهير المتمردة إلى محاضن المقولات التقليدية تبقى عودة كامنة في ذات تمردها الظاهري العاجز عن تقديم بدائل جدية ومجدية وموثوقة في هذا الاتجاه.

لهذا، لا بد من تأكيد الدور الضروري للمؤسسات/ المرجعيات الراسخة التي تقف من ورائها دول/ حكومات، أو هي تقف وراء دول/ حكومات؛ حتى يمكن اعتماد ما يحدث من تغيير خطوة حقيقية في الاتجاه الإصلاحي. لا يجوز أن ننسى أن الإصلاح الديني اللوثري اعتمد ـ كما يقول هشام جعيط (أزمة الثقافة الإسلامية، ص70) ـ على الأمراء؛ لا على الشعب. أي على قوى راسخة/ منتظمة قادرة على تعميم الرؤية وتعميقها في نسق واحد يخدم الاتجاه الإصلاحي/ الهدف المنشود؛ بصرف النظر عن الغايات التي كان ينتظرها هؤلاء من الإصلاح آنذاك، فالنتيجة أن الإصلاح أصبح حقيقة واقعية، وحقق هدفه التنويري، ولو كمقدمة ضرورية وظرفية للتنوير الإنساني الذي تحقق على يد فلاسفة التنوير العظام.

اقرأ للكاتب أيضا: الغرب مجهولا.. الغرب مكروها

أخيرا، لا بد من التأكيد على أن النقد العلمي/ التفكيكي للتراث، هذا النقد الذي يُنتظر أن يقوم به الباحثون الأفذاذ على نطاق واسع، كما يُنتظر أن تتفاعل معه المرجعيات/ المؤسسات الدينية والثقافية الكبرى لدينا، لا يحررنا من الأنساق الذهنية/ الثقافية التي تؤَسس في وعينا ـ قبل واقعنا ـ حالة التأزم التي تلقي بظلالها على كل مسارات النهوض الحضاري المأمول. أقول: لا يحررنا هذا النقد من كل هذا فحسب، وإنما يجعل هذا التراث الديني غير صالح لاستخدامه من قبل الأصوليين المتطرفين.

فكما أن “المسيحية الأوروبية عاجزة عن توليد حركات أصولية بمثل هذا الحجم والضخامة [أي كما هو الحال عندنا في العالم الإسلامي]. لماذا؟ لأن عقل التنوير مر من هنا” (قضايا في نقد العقل الديني، محمد أركون، ص171)؛ فكذلك سيكون واقع الحال بعد أن يخضع تراثنا لمراجعات نقدية مشابهة ـ إن لم تكن مماثلة ـ لما حدث للتراث الأوروبي طوال عصر التنوير

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate