حوار حول أفكار روسو التنويرية في الفضاء الثقافي العربي
حين سألتُ المفكر المغربي الدكتور كمال عبد اللطيف عن المفكر جان جاك روسو، فيلسوف عصر التنوير وتأثيره عربيا.. استغرب ولم يُخف تعجّبه.
مصدر الإستغراب أن روسو الذي تحتفل البشرية بمرور 300 عام على ميلاده مفكر انساني، لعبت أفكاره دورا أساسيا في الثورة الفرنسية (النصف الثاني من القرن 18) التي أعطت الإنطلاقة الفعلية للعلمانية منهجا سياسيا واجتماعيا.
ويُعتبر الدكتور كمال عبد اللطيف من أبرز المفكرين العرب الذين قرأوا جان جاك روسو ودرسوا أفكاره ودرّسوها، كما يُنظر إليه أيضا بوصفه من أهم المتابعين للمفكرين والفلاسفة العرب الذين تأثروا بهذا الفيلسوف الفرنسي – السويسري.
يقول الدكتور عبد اللطيف “توحي لي عبارة أو جملة جان جاك روسو عربيا بأشكال التلقي التي مارستها النخب ورجال الفكر العربي في موضوع قراءة أعمال جان جاك روسو. وفي هذا الباب أستطيع أن أتحدث عن أشكال مختلفة من تلقي الفكر العربي لمنجزات وأعمال روسو”.
د. كمال عبد اللطيف: هناك أشكال عدّة ومتنوعة، الشكل الاول موقف التنويريين العرب في القرن التاسع عشر وهم يتعرفون لاول مرة على أبجديات فكر التنوير، حيث صادفوا نصوص روسو، سواء بالموسوعة او نصوصه الاساسية التي كان يجيب فيها على اسئلة هامة طرحت عليه من قبيل خطابه في أصل العلوم او خطابه في أصل التفاوت بين الناس او خطابه في أصل اللغات وكتاباته الاخرى… هذا شكل من اشكال التعامل الذي حصل بين رواد وطلائع المثقفين العرب منذ القرن التاسع عشر، والمنجز الفكري الذي هو تراث واعمال جان جاك روسو.
هناك ايضا مثقفين ارتبطت اسماؤهم ومنجزاتهم بجوانب هامة من اعمال جان جاك روسو نذكر على سبيل المثال أديب اسحق، ولطفي السيد، وخاصة فرح انطون، وسلامة موسى، اللذان اعتبرا ان جان جاك روسو يعد من بين المعلمين الذين تركوا بصماتهم في أعمالهم الفكرية النهضوية ثم ما حصل في ترجمة اعمال روسو في الجامعات، ومراكز البحث طيلة القرن العشرين حيث ترجمت أغلب اعماله من طرف مترجمين مشهود لهم بالقدرة على نقل النص الفرنسي بكل حمولاته وايحاءاته الفكرية واذكر هنا عادل زعيتر وبولس غانم ثم من المتأخرين نذكر الترجمة الاخيرة التي انجزها الباحث التونسي عبد العزيز لبيب عندما قام بإعادة توثيق وترجمة رسالة في أصل التفاوت بين الناس، وصدرت عن الجمعية العربية للترجمة خلال عاميْ 2010 و2011.
توقفتم مطوّلا عند ترجمة المفكر عبد الله العروي لـ”الدين الفطرة”..
د. كمال عبد اللطيف: نعم صدرت لمفكر كبير اسمه عبد الله العروي ترجمة لهذا النص الذي يعد الفصل الرابع في كتاب جميل حول موقف جان جاك روسو من العقيدة الدينية وأعطاه العروي اسم “الدين الفطرة” وحرر له مقدمة هامة فيما يقرب من 20 صفحة اجاب فيها عن سؤال ما هو موقف روسو من الدين؟ ولماذا نترجم روسو الان بعد ما يسمى بالثورات العربية وقيام حكومات يقال ان مرجعيتها دينية؟. وهي مقدمة هامة خاصة وانها تصدر من مفكر كبير من عيار عبد الله العروي.
يبدو أن الحضور السياسي لجان جاك روسو وعقده الاجتماعي يطل برأسه في هذه المرحلة عربيا..
د. كمال عبد اللطيف: صحيح ان حضور روسو السياسي مهم جدا خاصة عند انصار نظرية العقد الاجتماعي او المؤمنين باهمية التعاقد في المجال السياسي من الليبراليين العرب وهم مثل غيرهم يستوعبون بطريقة او باخرى تصورات روسو للتعاقد والتعاقد السياسي ولكثرة الحضور الليبرالي البسيط والانتقائي في الثقافة السياسية العربية نجد بصورة او باخرى اشكال من التمثل لفلسفة روسو السياسية.
ما هي بتقديركم سلبيات هذا الحضور؟
د. كمال عبد اللطيف: اشكال الحضور والتلقي العربي لروسو هي ان تلقي روسو بالفكر العربي حمل كل تناقضات المشروع الفلسفي الروسوي بمعنى اذا كانت هناك خلافات بين فلاسفة التنوير وروسو وبين فولتير وروسو في موضوع الدين الطبيعي حيث كانوا يعتبرون انه ينتصر للرأي اللاهوي ذاتي في حين انه كان يدافع عن الدين الطبيعي، او الالحاد نجد ان الثقافة العربية بطبيعتها تحمل هذا النوع من التناقض وبالتالي تناقضات فلسفة روسو اغنت ووسعت تناقضات وانتقائية الفكر العربي المعاصر.
صحيح ان مؤرخي روسو من الغربيين وفي فرنسا على الخصوص استطاعوا ان يوجدوا نفقا لمنتوج روسو وادخلوه في دائرة ما يسمى بالفلسفة الشعورية او الوجدانية واعتبروا ان الدين الفطرة بمقدار ما هو بعيد عن الكاثوليكية وقريب من البروتستانية هو اقرب من الايمان الذاتي انطلاقا من مفهوم التدرج بالكمال الذي يملكه الانسان وبالتالي يستطيع عن طريق هذا التدرج بالكمال ان يستوعب العقيدة كمسألة فردية وشخصية.
هذه التناقضات محكوم على الفكر العربي ان يعيشها بطريقة خاصة ليس بسبب افكار روسو وانما بسبب التناقضات الموجودة في الثقافة العربية لذلك لم تعد تساهم في اصلاح الدين.
هل كان هناك تأثير لابن رشد على جان جاك روسو مثلما ذهب إلى ذلك البعض؟
د. كمال عبد اللطيف: كانك تسالني لماذا ربط فرح انطون روسو بابن رشد واجيب ان هذا الربط كان لان فرح انطون قرأ في دفاع ابن رشد عن استقلال الحكمة او الفلسفة عن الدين والفصل بينهما ما يمكن ان نعثر عليه في تصورات روسو في الموقف الديني أي نوعا من القوة التي اعتبرها فرح انطون انها تماثل قوة موقف ابن رشد.
ودون الحديث عن المقارنات لكن عندما يعتبر روسو ان الدين يجب ان يعلم للاطفال بعد سن 15 وان تتم تربيتهم بطريقة تجعلهم يستوعبون تدرجهم الانساني نحو الكمال كمسألة ذاتية في هذا الموقف نوع من عزل الدين عن رجال الدين وعن الوسائط والكنائس والتاويلات والايات والامراء الجدد وفقهاء الظلام.
قد يكون فرح انطون كعلماني استوعب ان بين الرجلين ومنجزهما النظري لقاء ما لكن هذا اللقاء هو لقاء بين مفكرين عقلانيين يرضيان بان للدين مجاله خاص. والان، اذا كان، وقد كان ايمان روسو عميقا، فقد كان ايمان قاضي قرطبة عميقا لكنه كان يريد الفصل بين طريق العقل وطريق الايمان وهذا الموضوع عند روسو وان كانت تشوبه تناقضات متعددة اذ هو ليس بوضوح موقف ديكارت من المعرفة والايمان، ولا موقف ابن رشد من الحكمة والفلسفة ولكن فلسفة روسو استوعبت موقفا متقدما من الدين كشأن شخصي ذاتي في اطار فلسفة وجدانية هامة جدا.
ما هي ابرز محطات تعامل الفلاسفة العرب مع روسو؟
د. كمال عبد اللطيف: هناك لحظتين هامتين تعامل فيهما العرب مع روسو اللحظة الاولى هي لحظة فرح انطون وبعدها بمائة سنة (اليوم) لحظة عبد الله العروي.
فرح انطونو، وهو المسيحي الديانة كان من اوائل المثقفين النهضويين العرب الذين يتبنون مجموعة من الافكار المتناقضة ويعتقد بأراء روسو ونزعته الفلسفية الانسانية وثانيا يعتقد باراء رونو بالفكر الوضعي ويؤمن بافكار ابن رشد، وهذا الثلاثي (رونو وروسو وابن رشد) كان لروسو موقعا هاما جدا فيه لروسو.
فرح انطون قرأ خطابات روسو “أصل العلوم والفنون” و”أصل التفاوت” وتوقف عند وضع روسو جملة في خطاب الفنون والعلوم على رأس كل عدد من اعداد مجلة الجامعة التي كان يصدرها وهي جملة “يكون الرجال كما تريد النساء فاذا اردتم ان تكونوا عظماء وفضلاء فعلموا النساء ما هي العظمة وما هي الفضيلة” هذا النص زين كل اعداد مجلة الجامعة وهو منسوب لروسو وتاكدنا من انه نصا موجود في كتاب “خطاب في العلوم والفنون”.
ونجد ان فرح انطون تأثر باعترافات وببعض جوانب الدين كما شخصه روسو في كتابه بالعقد الاجتماعي وهي ان الدين المدني فيه اقتراب من الدين الطبيعي والمهم هو المنزع الفردي والايمان الديني مسألة فردية لا علاقة له بالاخرين وهو ينبوع الضمير الذاتي وهذا الموقف من العقيدة والتدين باعتباره موقفا فرديا يعد من اقدم اسس الحداثية السياسية أي ان ننظر للدين كمسألة شخصية ذاتية وان نعتقد خارج الطقوس وكان روسو يحددها على مواقف المروق التي كانت تتبناها بعض تيارات داخل الفلسفة الالمانية.
ولا شك ان عبد الله العروي يقدّر جيدا فرح انطون في اطار نزعته التاريخانية بحكم ان العروي كان معجبا بمنجز التيار المسيحي في تحديث الثقافة والفكر العربيين، وأذكر انه حدثني يوما انه يتمنى ان ينجز عملا حول دور أسر اليازجي والبستاني ودور فرح انطون واديب اسحق وكل هؤلاء الرواد من أسر مسيحية عربية ذات الذاكرة في الثقافة الاسلامية، وكانت على مستوى الممارسة والفكر متفاعلة مع المشروع النهضوي وكانت لا ترى باي عجب ان تقوم العرب بتمثل مكاسب العصر في العلوم والفنون والسياسة من اجل التطور العربي والنهضة العربية.
العروي يقبل هذا ويصدر له في اطار نزعته كتاريخاني ولكن في ترجمته ل”دين الفطرة” على هامش الاحداث التي عرفها الوطن العربي 2011 يتبين انه يدفع الامر بعيدا باتجاه توضيح موقفه من العلمانية والاصلاح الديني ومن الدين.
وانتبهت انه يعود في المقدمة الى فقرة هامة في كتاب روسو التي يتحدث فيها عن هموم الدين والهموم الدينية باعتبارها انها ملائمة للانسانية ويقول العروي بما مفاده ان روسو انتبه الى الهم الديني وضرورة ايجاد مخارج له على مستوى النظري والدفاع عن البعد الذاتي في المسالة الدينية وعن ربطه في مجريات الشأن الاجتماعي والشان السياسي.
وهنا يقول العروي بوضوح ان ما يجمعه بموقف روسو هو ما اورده في المقدمة من كلام روسو ويقول “ان كلام روسو في عقيدة القس الجدلي ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهم الديني وهذا الهم عاد بعد ان غاب وان قدر له ان يغيب فهو لا محالة عائد” انتهى كلام العروي وهو يعلق على مواقف روسو ويمكن ان نقول ان روسو حاضر ومستمر الحضور في الثقافة العربية لانه لم يكن مفكرا منغلقا مذهبيا بقدر ما كان يلامس في القضايا التي يعالجها قضايا الهم الانساني وهي قضايا مفتوحة على اشكالات مستمرة والاسهام الروسوي في هذا الباب دون شك يعد اسهاما انسانيا نحتاج دائما الى مراجعته للتعليق عليه والى ترجمته والعناية به.