عن الاصلاح الديني مقاربة عامة
على سبيل التقديم:
في البداية نتساءل عن الحاجة الملحّة والضرورية للإصلاح الديني، هل يحتاج الناس، اليوم، إلى الدين أكثر من أيّ وقت مضى؟ ما الدافع إليه؛ أبسبب إعراض الناس عنه، أم بسبب إقبالهم عليه؟ أم هل الأمر يتعلّق بانفلاتات تتجلّى في التشبّث بقراءة متشدّدة للدين، وبذلك يُراد تقديم منظور للدين مخالف، أو ربما يواكب العصر، ويتكيف مع تطوراته؟
الحديث عن الإصلاح الديني، بصفة عامة، يطال وينطبق على كلّ فكر ديني، لاسيما الفكر المسيحي واليهودي؛ وهذا لا يعني أنّ الإسلام، ديانةً، لا يختلف عن المسيحية واليهودية نظراً إلى خصوصيّته، ولو لم يكن، كذلك، لذاب في الديانتين، ولانتهى أمره.
موضوعة الإصلاح الديني كتب حولها الكثير من مختلف البلدان العربية الإسلامية بدافع وحيد؛ تحديث المجتمع، والدفع به إلى مصاف الدول المتقدّمة، انطلاقاً من رؤية تربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الديني.
قبل الإشارة إلى تداعيات صيحات ودعاوى الإصلاح الديني، يجدر بنا أن نضع ملاحظات أوّلية على المنوال الآتي:
الإصلاح الديني والدين لا بدّ من أن نفرّق بينهما، فالإصلاح الديني مشروع أو اجتهاد بشري يتّسم بالنسبية؛ طالما أنّه يعبّر عن اجتهادات فردية تتغيّا الإجابة عن تساؤلات من صميم الدين، وليست هي الدين. إذاً، هي أفهام مرتبطة بواقع وزمان وظرف معيّن، ولذلك، أيّ أطروحة للإصلاح الديني ليست بمنأى عن المساءلة والنقد، ولا ينبغي التسليم بها دون البحث في خلفياتها، ومراجعة قبليّات أصحابها.
أمّا الدين، فهو مبادئ، وقيم، وتعاليم، ليست من صنع البشر؛ لأنّ مصدر تعاليمه إلهيّ، لذلك، الدين لا يخضع للتطور والتغير طالما يثوي حقيقة مطلقة تسعى البشرية إلى الوصول إليها، فالدين لا يمكن، بهذا المعنى، أن نطالبه بأن يتطوّر، ولكن فهوماتنا له، ومعرفتنا به، هي التي ينبغي أن تتغيّر.
تحديث الإصلاح الديني، وتطويره، وتجديده، يستدعي استحضار المنطلقات؛ التي يجب أن ينطلق منها المتصدي لهذه العملية، ولن يكون هذا المنطلق إلا النصّ المقدس؛ الذي يحتوي على المضمون الديني المراد إبلاغه وإيضاحه، والتوصل إلى ذلك لن يتأتى إلا عن طريق التوسل بأدوات وآليات محددة، يتم استخدامها في استنطاق النص المقدس (القرآن والسنة) لتوليد معنى جديد منه.
وهنا، نتساءل عن كيفيّة إدراك مراد الله؛ هل عن طريق ما أومأنا إليه آنفاً؛ أي: بأدوات خاصةً، أو عن طريق فهومات بشرية؟ بأيّ منهج يجب أن نتعامل، بمنهج السلف أم بمنهج الخلف؟ وأين نضع العلوم الإنسانية في علاقتها بالنص الديني، التي طرحت أسئلة عميقة ودقيقة حول محتوى النص الديني؛ حيث شكّكت في قدراته على مواكبة حاجيات الإنسان المعاصر؟
الإصلاح الديني ليس دعوة نفعيّة عمليّة براغماتيّة للتكيّف مع مقتضيات العصر، أو الاستجابة لإملاءات غربية، وضغوط خارجية، فهي دعوة قديمة؛ حيث كان، ولا يزال، كلّ عصر، وكلّ جيل يجابه أسئلة من صميم الدين، ويجيب عنها وفق ما توصل إليه فهمه وقتئذ، وبحسب قدراته وأفقه، وانتظاراته من الدين.
الإصلاح الديني ضرورة واقعية وإنسانية؛ نظراً لما لها من انعكاس على الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، فأوربا (المسيحية) لما فتحت ورش الإصلاح الديني؛ حيث حسمت المسألة الدينية في علاقتها بالسياسة، استطاعت أن تنطلق نحو آفاق التقدم والرفاه. قد يبدو من الصعوبة قياس هذا الإجراء على الوضع العربي الاسلامي؛ لأن مقدّسها الجمعي ليس من السهولة أن تزحزحه، بله تغييره. وعلى الرغم من ذلك، إن أوربا لم تُقْصِ الدين بالمرة من الحياة، فقد ظلت حياة الإنسان الغربي مستحضرة الدين، دون أن يفرض عليه نمط من الاعتقاد الميتافيزيقي.
ظلّ الإصلاح الديني عبر الأزمان دعوة متواصلة، حيث برز روّاد كثر من أديان مختلفة ثاروا على الأوضاع الدينية القائمة والسائدة، وأسّسَ بعضٌ منهم أرضيّة إبستمولوجية يقوم عليها الدين، بيد أن بعضاً آخر حافظ على الأرضية ذاتها، مستلهماً أفكاراً جديدة، لبناء إصلاح على أسس متينة، تقطع مع الأطر والأشكال الكلاسيكية، التي ألّفها المسلمون في حياتهم.
الإصلاح الديني ليس إنكاراً للماضي؛ فالإصلاح الديني الناجح هو الذي يجعل الماضي قاعدة للانطلاق منه، كما أنّه عبارة عن انتقال تدريجيّ يستغرق فترة زمنية طويلة، وهذه بعض من السمات والخصائص، التي يختلف فيها الإصلاح عن الثورة.
إنّ السؤال المركزي؛ الذي يحرّك الباحث، والمثقف، والعالم، مفاده: ما السبيل لتحقيق التقدم والتنمية مع الحفاظ على الثابت الديني؟
معظم الكتابات، في العقدين الأخيرين، ركّزت على الإجابة عن هذا السؤال، وكلّما حلّت بالبلدان العربية الإسلامية أزمة، انبعث هذا السؤال، الذي يبرز إلى السطح كلما تعثّرت المشاريع النهضوية، ومع إخفاق المشروع الأخير (مشروع الإسلام السياسي)، توحّد الجميع تحت يافطة ضرورة الإصلاح، لكن أيّ إصلاح؟ ومن أين يبدأ هذا الإصلاح؟ حيث رجع الجميع إلى مربع الصفر، بعد ما شبعنا، إلى حدّ التخمة، انقساماتٍ وتفرقة على الصعد كافة، إلى أن جاء فكر (القاعدة) ليحسم في مسار تلك المشاريع النهضوية برمتها، ويعلن حالة الإفلاس الشامل، وبذلك عدنا إلى الوراء بقرون، فطفقت النخب الثقافية والسياسية إمّا للدفاع، أو التبرير، في ظلّ حالة من التشظّي الإيديولوجي، والمذهبي.
وبالنظر إلى ثنائية الإصلاح الديني والتحديث السياسي، يرى البعض أنّنا يجب أن ننتظر تشكل إصلاح ديني، كي نبدأ التحديث السياسي الحقيقي، والبعض الآخر يرى العكس. لابدّ من تحديث سياسي، واقتصادي، واجتماعي، ثمّ، بعد ذلك، نبدأ بإصلاح ديني حديث؟ وثمة من عدّ الدين عائقاً في وجه التنمية والتقدم، وعلق على الدين «الإسلامي»، خاصةً، إخفاق المشاريع التنموية في مجتمعاتنا. إذاً، كيف نفسر تنامي ظاهرة التدين في الدول المتقدمة، وفي أعلى هرم السلطة السياسية، على سبيل المثال، الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيّما في عهد ولاية بوش الأب والابن.
وهل لا بُدَّ من تأهيل المجتمع لكي يصبح مجتمعاً صناعياً ليزدهر فيه الفكر الديني، ويتطور، أم يتعلق الأمر بحلقة مفرغة مفادها؛ طالما أن المجتمع متخلف فالنتيجة: أنّ أيّ إصلاح مهما كانت طبيعته سيتسم بالتخلف؟
ويمكن القول: إنّ مصدر هذه الإشكالية نابع من عدم إيلاء الأهمية للإصلاح التربوي والتعليمي على حساب الإصلاح السياسي والاقتصادي، الذي لم يتحقق لمجتمعات العالم الثالث. إذاً، النقلة الأولى المطلوبة هي التحرّر من تبعات الأجنبي من جهة، والتحرّر، أيضاً، من جهة أخرى، من أسر بعض التجارب المستنسخة والمستعارة للنهوض، التي باءت بالإخفاق في البلاد الإسلامية، لاسيما في بعدها «الديني».
من الأخطاء الفادحة، التي ارتكبتها بعض النخب الثقافية والسياسية، التي ادّعت أنّها تريد إصلاح الواقع المرّ للأمة؛ حين جعلت من مهماتها الهجوم على الدين، واستفزاز المتدينين، ولم تبذل جهداً في إصلاح فهم الناس للدين، كما أنّ الكتابات، التي صنّفت كتابات تعنى بالإصلاح الديني، فهي إما تندرج في إطار الكتابات حول الاجتهاد الفقهي، وتجديد أصول الفقه… أو تندرج ضمن نقد الفكر الديني إمّا بشكل أكاديمي، وإمّا على شاكلة من ذكرنا آنفاً؛ الذين لا همّ لهم إلا الهجوم على الدين؛ ناسين أن الدين في مجتمعنا بمثابة هواء يتنفسه الإنسان، فضلاً عن تغلغله في المخيال الشعبي.
في هذه الدراسة، سنحاول الإشارة، فحسب، إلى بعض الجوانب المنهجية، عند تناول موضوعة الإصلاح الديني؛ يتعلّق الأمر بمفهوم الإصلاح ودلالاته، وعلاقة التأثير والتأثّر بين الإصلاح الديني في التداول الغربي، وفي التداول الإسلامي، ثم سنتحدث عن محور الإنسان في مقاربات الإصلاح الديني، ومركزية الدين في المجتمع، ومحور النقد ودوره في بلورة قراءة جديدة للدين تتوافق مع ثقافة العصر.
1- مركزية الدين في الحياة الاجتماعية:
يقال: إنّ الإنسان كائن دينيّ (homo religiosus)، ومن ثَمَّ استحالة تجاوز هذا المعطى الجوّاني فيه، فعمليّة التغيير، مهما كان نوعها، تكمن نجاعتها في مدى اقترابها من تناول الذاكرة والهوية الجماعية، أو، بتعبير آخر، مقدسها الجمعي؛ ولذلك أثبت الرهان على أفول الدين اجتماعياً، وفق الرؤية الوضعية، إخفاقه. إنّ مقولة زوال سحر العالم (le désenchantement du monde) بتعبير ماكس فيبر (max weber) (هذه النبوءة) لم تتحقّق، وعاد المكبوت الديني في قلب أوربا/الحداثة، وبتأثر منه يذهب المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه (marcel gauchet)، في أطروحته، إلى الخروج من الدين[2]؛ أي: بمعنى انتقال الإنسان من عصر الدين إلى عصر الدولة، إلى جانب عديد من الأقوال حول الظاهرة الدينية من قبيل عدّها أفيون الشعوب (ماركس)، وأن الدين مستقبل وهم (فيورباخ).
الحديث عن إصلاح ديني، أو ثورة دينية، ينمّ عن وجود موروث ديني معوق، يحول دون انطلاق الإنسان نحو آفاق رحبة، ما يدفع إلى التساؤل حول منهج تناول الإصلاح الديني، في ظلّ ما أفرزته الحداثة من محمولات شكّلت تحدياً صارخاً في وجه الفكر الديني.
أينبغي أن ينصبّ حول المحتوى (المعنى)، أم الشكل (المبنى)؟ ويطرح، أيضاً، السؤال حول المكلف بمهمّة الإصلاح، أيجب أن يقوم بها رجل السياسة، وصاحب الإيديولوجية، الذي سيقوم بإصلاحٍ للدين من خارج منطلقاته، أم سيباشر المهمة المصلح الديني، أو بتعبير آخر المثقف الديني، الذي ينطلق من النصوص المقدسة/المؤسسة؟
إنّ مسوغ هذا التساؤل يرجع إلى دعاوى بعض القوى، التي تنفر من أيّ إصلاح، أو تجديد، أو تغيير، صدر عن مجموعات بحثية؛ غير مرتبطة بالمؤسسة الدينية، على الرغم من وجاهة طرحها وجدته، وغالباً ما يعدّ أصحاب هذه المبادرات، لدى شريحة من المتدينين أصواتاً نشازاً، لا يعتدّ بمنجزها؛ لأنّها تتحدّث من خارج دائرة التخصص؛ أي: من خارج منطلقات الدين ذاته، وبذلك، تكون عرضة للإقصاء، والتهميش، والتشهير، بدعم من أصحاب التدين المزور (بتعبير علي شريعتي)، أو التدين المغشوش (بتعبير محمد الغزالي).
الحديث عن هذا الموضوع، يقتضي أن نشير إلى المقاربات السائدة حوله، كما عرضها الدكتور محمد حداد في المقاربة الأولى يتّخذ الإصلاح الديني الفرد موضوعاً له؛ أي: المصلح، والمقاربة الثانية تتخذ الوضع الاجتماعي للحديث عنه، ثم المقاربة الثالثة التي تدرس الظاهرة الدينية، من خلال منطقها الداخلي، الذي يقيمها ظاهرة متميزة عن ظواهر أخرى، ويعرفها بحسب «نمط نموذجي» (ideal-type) «يستمدّ صحّته الإجرائية من استناده إلى منطق داخلي واضح صلب، ومن قابليّته، بعد ذلك، أن يفسّر تجارب فردية، أو جماعية متعدّدة»[3]. ليس، بالضرورة، قابلاً للتعميم والتطبيق على كلّ التجارب. بطبيعة الحال، لكلّ شعب ومجتمع خصوصيته.
2- معاني الإصلاح الديني:
يقول الدكتور محمد الحداد: «مقولة (الإصلاح) تفترض وجود رغبتين متعارضتين؛ رغبة في التغيير، ورغبة في التواصل، تجعل المجتمعات الحديثة «الجدّية» أمراً مطلوباً وإيجابياً. أمّا المجتمعات التقليدية، فترى الجدية أمراً مريباً إلى أن تثبت شرعيّته، فلا يحلّ «الإصلاح» بين مجتمع تقليدي إلا مرتدياً رداء الشرعية الدينية، فهو لغة الثقافة بكلّ تعبيراتها، وتمركز الحركية الاجتماعية بكلّ تنوعاتها، ثمّ يتوقّف عند عبارة «إصلاح ديني» في اللغات الأوربية؛ حيث يختلف معناه بحسب وضع حرف البداية، إذا كان حرف بداية كبير، فالكلمة تحيل على الحدث التاريخي، أمّا إذا كان حرفاً صغيراً، فتحيل الكلمة على معنى لغوي عام. أمّا في التداول اللغوي العربي، فإنّه يجعل كلمة إصلاح دينيّ «تحتمل ثلاثة معانٍ متباينة»[4]:
– فقد تعني الإصلاح الذي يستمد شرعيته من الخطاب الديني.
– أو تعني إصلاح الخطاب الديني ليحقّق وجوده في العصر الحديث.
– أو تعني إصلاح مجالات الحياة الخاصة والعامة حسب مقتضيات الخطاب الديني.
فالمرجعية التقليدية المتعايشة مع العصر تفهم المعنى الأول، أمّا المرجعية التحديثية فإنّها تفهم المعنى الثاني، وإذا كانت مرجعيّة تقليدية محافظة، فإنّها تفهم المعنى الثالث، وتجدر الإشارة أنّ عبارة إصلاح ديني مستحدثة في التراث العربي الإسلامي، حيث تُعدّ من مبتدعات القرن التاسع عشر.
بما أنّ الإصلاح الديني مرتبط بالفكر الديني؛ الذي يتّسم بدوره بالنسبيّة، فإنّه قد يشتمل على مصطلحات أخرى تدور في فلك الإصلاح الديني عامة، كعملية الإحياء، الذي يعني إعادة إحياء قسم مهمل ومهمش في الفكر الديني، كما فعل الإمام أبو حامد الغزالي، حيث ألف كتابه المشهور بعنوان: (إحياء علوم الدين) الذي لاقى نقداً من قبل علماء آخرين، حين قالوا: وهل ماتت علوم الدين حتى يحييها الغزالي؟
أمّا عملية الإصلاح، فيتمّ السعي لتهذيب الأفكار الدينية من الزوائد والشوائب، التي لحقت بها، كما حدث مع رواد النهضة العربية (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده…). وفي نظرنا، لا مشاحة مع الاصطلاح، فإنّنا نحبّذ عبارة التجديد، التي تروم صياغة رؤية جديدة للنصوص الدينية، وتتوخّى، أيضاً، التأسيس لحضور دينيّ جديد.
3- العلاقة بين الإصلاح الديني الأوربي والعربي:
من الشائع أنّ الإصلاح الديني، الذي حصل في أوربا، نتاج تأثّر بما حدث من إصلاح وتجديد عند المسلمين، انطلاقاً من المواضيع؛ التي تناولها، فعلى سبيل المثال كانت مسألة الخلافة، وما ثار حولها من نقاش شكّل مصدر إلهامٍ للفكر الأوربي لمواجهة النظام البابوي للتخلّص من سلطة الكنيسة، وسلطة البابا، ويرجع ذلك إلى دواعٍ عديدة، منها: سفر رجال الدين المسيحيين إلى الشرق الإسلامي، ثمّ عن طريق الجامعات؛ التي أنشأها المسلمون في أوربا (قرطبة – طليطلة…).
إلى جانب تركيز بعض المصلحين المسيحيين، قبيل مجيء مارتن لوثر (Martin Lauther)، على أنّ أسلوب المسيحيّة في الحياة يجب أن يُستمدّ من الإنجيل، لا من تعاليم الكنيسة. كما هو الشأن بالنسبة إلى المسلمين، فالقرآن هو المصدر الرئيس عندهم، ثمّ ذهبوا إلى أنّ الصلة بين الإنسان وخالقه يجب أن تكون دون وساطة من رجال الدين، كذلك الشأن بالنسبة إلى الإسلام {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافر: 60]، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللَّهُ} [آل عِمرَان: 135]. إضافة إلى أنّ الفكر المسيحي الديني ناقش هو الآخر قضية عصمة البابا، كما تمّ بحثها في الفكر الإسلامي، حين التعرّض إلى قضيّة النبوة، حيث إنّ الأنبياء قد يخطئون، لكنّهم لا يقرّون على خطأ. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الأنبياء، فمن باب أولى أن يكون كذلك مع البابوات؛ الذين لا يختارهم الله، وإنّما يختارهم الناس ممّن هم من رجال الدين.
هذه النقاشات، وغيرها، مهّدت للإصلاح الديني، وظهور البروتستانتية، وقد أسهمت، هي الأخرى، في ظهور فلسفة الأنوار، التي بدورها مهّدت لحدوث ثورات سياسية. إذاً، هناك إصلاح ديني زائد فلسفة تنويرية، فنتج عن ذلك ثورة سياسية، وهذا المسار لم تشهده البلدان العربية بهذه التراتبية، فما سمّي ربيع ثورات العرب، يُعَدّ انتفاضات ضدّ أشكال الاستبداد، والقهر، والفقر، لكن، هل هي ثورات جذريّة مسّت البنى الفكرية والمعرفية للإنسان العربي؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى مقالة أخرى، ومقام آخر.
أوردنا هذه الأفكار البروتستانتية، التي عزونا تسرّبها من المنظومة الإسلامية في اتجاه الفكر المسيحي، حيث نجم عنها إصلاح دينيّ حقيقيّ تمخّض عنه ترسيم صارم للعلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وأسهم في النهضة الأوربيّة، وتقدّم الغرب، وتخلّف المسلمين، نتيجة الجمود على الموجود، وعدم تجاوز إشكالات الماضي، وعدم الحسم في قضايا عديدة، كما فعل الفكر الأوربّي، والمفترض، هنا، أن يتجاوز الفكر الإسلامي الآراء البروتستانتية في رؤيته للإصلاح الديني.
ذكر محمد جمال باروت، حول مسألة التأثر والتأثير، أنّ البعض فهم السلفية، هنا، بوصفها عودة إلى فطرة الأصول، قبل الزيادات، كما هي العودة البروتستانتية إلى العهد القديم. وكما فتح الإصلاح البروتستانتي باب النهضة السياسية والصناعية في العالم الأنجلو ساكسوني الغربي، أمل الإصلاحيون والمسلمون أن يفتح إصلاحهم هذا الباب[5].
لايزال كثير من الكتابات «الإسلامية السلفية يردّد فكرةً عن الإصلاح الديني الأوربي، قد تجاوزها الفكر الأوربي منذ فترة طويلة، وتختصرها صورة الكنيسة، التي تضطهد العلماء، وترتزق بيع صكوك الغفران، والمصلحين الدينيين المناصرين للعلم والتقدم والحرية، المقوّمين انحرافات رجال الدين… وقد تجاوزت أوربا التاريخ التقليدي لضميرها الديني، بينما بقينا مصرّين على التاريخ التقليدي لضميرنا الديني، وضميرها الديني في آن واحد»[6].
لكن ما آل إليه وضع المسلمين، كان معاكساً لقانون التطوّر الطبيعي، وما حصل داخل المجتمعات العربية، أمام رياح الحداثة العاتية، ردّ فعل سلبيّ اتّجه صوب الاحتماء بثقافة تراثية «فقهية» تخطّاها العصر، فتعاظمت ظاهرة التديّن القائم على الفهم الظاهري والحرفي والمعجمي للنصوص الدينية، دون مراعاة سياقها الاجتماعي والتاريخي، فذهبت -على إثر هذه القراءة للدين- روح الدين الحقيقية في أروقة التاريخ، ليتحوّل إلى دين الموت (مع الحركات الجهادية)، ودين أهوال القبور والمظاهر والقشور (مع التيارات السلفية)، ويتحول إلى دين إيديولوجي انتهازي (مع الحركات الإخوانية)، والخاسر الأكبر بين هذه القراءات الفقهية والإيديولوجية والحرفية للدين؛ هو الإنسان.
4- مركزية الإنسان في الإصلاح الديني:
يمكن أن نردّ غياب مسألة البعد الإنساني والمركزي في أيّ عملية تغيرية، أو إصلاحية، إلى بعض مظاهر القصور، التي عرفها الفكر الإســــلامي، حيث ظلّ يتردّد بين ثنائيـــة (الله – الإنسان) مقدّماً إيّاها (الإنسـان – الإنسان)، أو (الإنسان – الوجود)، وما تمخّض عن ذلك من قضايا التبست في الذهنية الجماعية للمسلمين، كالحريات، والحقوق، وقضية المواطنة، التي لا يزال الفكر السياسي «الإسلامي» لم يقاربها مقاربة علمية، وإبستمولوجية، نظراً لارتباطها بمفهوم العلمنة، وارتباطها، أيضاً، بتناقض متخيّل بين مفهوم الأمة ومفهوم المواطنة، وما بين الهوية الدينية والوطنية، وأيّهما أولى، وغيرها من الإشكاليات المتعلقة في الفكر الإسلامي المعاصر.
وسط زخم هذه النقاشات، التي يمتزج فيها ما هو تاريخيّ تراثي بما هو حديث وواقعي، دون حسم ينحاز إلى الإنسان، مهما كان، ومهما دان، ضمرت النزعة الإنسانية، التي تقوم على احترام الإنسان كائناً بشرياً، أولاً، قبل أن يكون مواطناً، وهذه بعض التصورات القاصرة حول حقيقة الإنسان؛ لأن مجتمعاتنا لم تحل بعد مسألة الإنسان، ولا تملك اعتقاداً صحيحاً حوله؛ لذلك وجدنا من نظر إلى الإنسان موجوداً عاجزاً، هدفه أن يبقى عاجزاً أمام الله.
هنا، لا بُدّ من استحضار نظرة المذاهب القديمة إلى الإنسان، الذي كان يقدّم نفسه قرباناً للآلهة؛ فضلاً عن بعض الفلسفات الحديثة، التي تنظر إلى الإنسان على أنه حيوان طبيعي؛ أي: إنسان مادي، وحيوان اقتصادي، غريزي، وجنسي، وهي نظرات انعكست سلباً على حياة الإنسان وخصائصه، فجاءت الرؤية القرآنية للإنسان، التي تعدّ الإنسان إنساناً خيراً لا إنساناً شريراً، ومعصية الإنسان الأول لله إشارة إلى تطوّره من حال اللاوعي الغريزي إلى حال الوعي الذاتي، وهو إيذان بتحوله من الطاعة الجبرية إلى الطاعة الاختيارية. قال عبد الوهاب بوحديبة، عن طرد آدم من جنات عدن: «ليس مجرّد تخلٍّ، وليس، من باب أولى، لعنة، إنّما هو انتقال من مكان إلى آخر، أو إنّ شيئاً هو طرد تحرير»[7].
ولقد أجاب الله الملائكة بأنّه يعلم ما لا يعلمون، فهو يبالي بمصير مخلوقاته، ولا يفتأ يساعدهم، ويظلّ «أقرب إليه من حبل الوريد». ألم يضْفِ عليه الكثير من صفاته؟ ففي شرح الآية {لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّين: 4] أبرز القاضي ابن العربي: «أنّ الله لم يخلق أحسن من الإنسان، ومنحه الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر والعقل والحكمة، وهي صفات يختص بها سبحانه»[8]. الإنسان له ميّزات ثلاث كونه موجوداً واعياً، ومختاراً، ومبدعاً، وليس كائناً مستحقراً وذليلاً أمام الله؛ بل هو خليفة الله (المقصود بالخليفة هنا الإنسان من حيث هو إنسان، لا الخليفة من حيث هو الحاكم)، وكائن عزيز عند الله، وكائن ذو بعدين: بعد أرضي، وبعد سماوي، يحتاج إلى دين لا يصرفه إلى النزعة الأخروية البحتة، ولا إلى النزعة الدنيوية المطلقة؛ بل يحقق له التعادل والتوازن؛ أي: أنه بحاجة إلى دين ذي بعدين حتى يساعده على تنفيذ مسؤولية الإنسانية[9].
وتصحيحاً للمفاهيم الخاطئة حول الإنسان، كما تجسدت في التراث الإسلامي، دعا الكثير إلى ضرورة قراءة إنسانية للدين، ويقصد منها أن يفهم الإنسان دينه، وتدينه بالشكل الذي تقتضيه كل أبعاد إنسانيته، الدين للإنسان، وليس لله، فالإنسان هو الذي يحتاج إلى الدين، وليس الله، لا يستطيع الإنسان أن يفهم دينه بما يتناقض مع شطر إنسانيته، وأبعادها)[10].
نشير إلى أنّ مركزية الإنسان، ليس المراد منها حلول الإنسان محل الله، والاستقلالية عن الوحي، أو التخلي عن الروح الدينية في العصر الحديث، وإنما المراد من البعد الإنساني، أو الصفة الإنسانية، الجانب الحقوقي، والقيمي، والفلسفي؛ تلك الجوانب التي غيبها الفكر الإسلامي في الماضي، ولايزال عدم التركيز عليها قائماً في منظومتنا الثقافية، والدينية.
5- النقد الديني بين الإيديولوجي والمعرفي:
النقد ضرورة تمليها طبيعة الدين ذاته، فالملاحظ أنّ الوحي ظاهرة نقدية، في حدّ ذاتها، فعلى سبيل المثال، كلّ نبيّ من أنبياء الله يأتي قومه يحمل معه مشروعاً إصلاحياً قائماً على نقد الواقع، وما ينطوي عليه من أفكار ومفاهيم خاطئة، ثم بعد ذلك يؤسس لفهم جديد، لكن واقع الأفراد والجماعات في البلدان العربية، لا تتحمّل النقد، ولا تمارسه، وينظر إلى كلّ من يمارس النقد على أنّه متآمر يخدم مشروع الأعداء، وينال من الدين الإسلامي، ويشوّه صورة المسلمين.
يُراد من النقد، في السياق ذاته؛ نقد مزدوج يستهدف مستوى الإصلاح الديني، والآليات التي اعتمدها، ومناهجه، ثمّ يستهدف فهم النصوص الدينية، والقراءات المتعدّدة لها. وبشكل آخر، نقد داخلي (من داخل الدين)، ونقد خارجي (من خارج أطره).
ولذلك، شرط ولوج الحداثة القيام بتقديم طرح نقدي للدين، وهذا العمل، الذي قامت به أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تدخل في طرح صراعي مع الدين؛ بل قدّمت تفسيراً جديداً للعالم وقراءة جديدة للدين، (مثلاً: فسر هيغل الدين عقلياً، كما سعى ديكارت إلى إثبات عدم مادية الله والنفس من خلال نظرية العقلانية).
غير صحيح أنّ الدين، في ظلّ الحداثة، يفتقد مركزيته في الحياة عامة، فإن ارتفعت القراءة الدينية الجديدة إلى الحداثة، فإنّه لا يحصل تصادم بين الإسلام والحداثة؛ لأنّ قيم الحداثة قيم إنسانية لا قيم غربية، كما يظنّ البعض.
لماذا ركزنا على النقد كخيار إبستمولوجي قام عليه الوحي «الإسلامي»، وليس النقد آلية وظيفية ظرفية براغماتية، يضطرّ إلى استخدامه كلّما طُوِّقت نصوص الدين باستفهامات تحتاج إلى إجابات آنية، نلحظ أنّ الفقهاء وعلماء الأمة يقرّون بقصور الأدوات التحليلية التقليدية، ويتوسّلون باجتهادات مستمدّة من فتوحات المعرفة الحديثة، للخروج من طوق الأسئلة/التحدي، ومع ذلك مازال حضور النقد المعرفي الصارم في منظومتنا الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، باهتاً؛ لعوامل نفسية، وتربوية، وتاريخية؛ فالجانب النفسي يتجلّى في صعوبة تقبل النصح من الآخر، والجانب التربوي لا تحضر فيه أجواء النقد، فيتربّى الطفل على التمجيد، والمدح، والتلقي السلبي، دون تفاعل مع المضامين تحليلاً ومناقشةً. أمّا العوامل التاريخية، على سبيل المثال، التربية الدينية؛ فلا تقدم نماذج للمشاريع النقدية للدين والفقه. ومهما تعمّد بعض المتصدّين للشأن الديني محو ثقافة النقد؛ فإنّه سيظلّ حداً فاصلاً بين التجديد والتحجر؛ وستظل فضيلة النقد ومحوريته أساسية في بناء فهم جديد للدين، وقراءة جديدة لنصوصه.
وممّا يدلّل على أنّ النقد فعل ملازم للإنسان في كلّ عصر، وجود مشاريع إصلاحية وتغيرية في الساحة العربية والإسلامية، بمختلف منطلقاتها، ومناهجها، ومضامينها، وهي نتاج ممارسة نقدية معرفيّة صارمة للموروث، بآلية الاستيعاب والتجاوز. وإضافة إلى ما ذكرنا، يفتح النقد المجالَ للتفكير العلمي في الشأن الديني، خارج الإيديولوجيات الرائجة، ويفتح، أيضاً، إمكانات جديدة لاجتراح مفاهيم جديدة تتخطّى المنتج، الذي يسوق في جامعاتنا ومؤسّساتنا التربويّة، وينطوي على الكثير من الزبد، الذي لا ينفع.
يقول الدكتور محمد حداد: «لقد حان الوقت للخروج من خطّة التعامل مع الموضوع الديني بآليات ثقافة الستر، وللمواجهة الشجاعة لوضعنا الثقافي، الذي تصحّ عليه عبارة الفيلسوف هيغل بأنّه وضع «الشعوب ذات الوعي الغامض بتاريخها». فما كان من صنف «اللامفكّر فيه» في الماضي، يصبح، اليوم، من صنف مكابرة الواقع (deni du reel)، والخطأ ليس في التراث، ولكن في طرائق تعاملنا معه»[11].
6- الإصلاح الديني «الإسلامي» بين «الإصلاح البروتستانتي» و«لاهوت التحرير»:
ثمّة كتابات عديدة حول موضوع الإصلاح البروتستانتي من الجوانب كافةً؛ من حيث تاريخه، وأسبابه، ومضامينه، ورواده، وكذا موضوع «حركة لاهوت التحرير» الحركة الدينية، التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العنوان/الفقرة لا يعني الحديث عن هذه الحركات الدينية الإصلاحية بتفصيل وتدقيق، فمساحة هذه الدراسة لا تتّسع، من جهة، وخوفاً من تشعّب الموضوعات، وتشتّت الفكرة المحورية، التي نروم تناولها، من جهة أخرى.
نودّ الإشارة إلى أنّ أيّ إصلاح ديني، في المنطقة العربية، ليس ملزماً أن يسلك المنهج ذاته، والطريق ذاته، الذي سلكته بعض بلدان العالم، نظراً إلى اختلاف السياقات التاريخية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية. وإضافة إلى هذه الملاحظة، ينتمي الإصلاح الديني في الوطن العربي إلى دائرة الديانة الإسلامية، بينما الإصلاح الديني المشار إليه أعلاه، ينتمي إلى دائرة الديانة المسيحية. بيد أنّ المتصدّين لعملية الإصلاح الديني في بلداننا، والمهتمّين به، والمقتنعين بأولويّته، يمكن أن يستفيدوا من هذه التجارب، وأن يستلهموا منها عناصر القوة، ويمكن، أيضاً، أن يستخلصوا منها ما يدفع بعجلة الفكر والخطاب الدينيين إلى الأمام، لكن لا يمكن التسليم بنجاعة هذه الاستفادة بإحداث نتائج إيجابية ملموسة في الواقع العربي، ما يعني قصور أطروحة استنساخ تجارب الآخرين، والسعي لتطبيقها في بلدانهم. لا شكّ في أنّ هذه الدعوى/الأطروحة قد أثبتت إخفاقها في مجالات عديدة، لاسيّما في الجانب السياسي. بعبارة أدقّ، نودّ القول: إنّ النخب الدينية والثقافية ينبغي أن تبلور مشروعاً إصلاحياً دينياً منبثقاً من جدل داخلي.
الإصلاح البروتستانتي:
جاء ردَّ فعل على الممارسة المنحرفة للكنيسة، وقد ركّز البروتستانت على إيقاظ همم المسيحيين، وتبني التجارب الدينية المرتبطة بالواقع، وإحياء الجانب الروحي، عكس ما كانت تمارس الكنيسة من طقوس، وابتزاز، وقد رفع البروتستانت شعار الكتاب وحده؛ أي: الكتاب المقدس، فنجحوا، بذلك، في الحدّ من نفوذ رجال الدين، وسلطانهم، وصدّهم عن التدخّل في المجال العام، وغيرها من الإصلاحات، التي نادى بها (لوثر، كالفن، روزنجلي).
أمّا في بلداننا، فقد ارتبط الإصلاح الديني، في الآونة الأخيرة، بحدث (11 أيلول/سبتمبر 2011م)، وكذا تنامي ظاهرة الإرهاب العالمي المرتبط بالدين، وتحديداً «الإسلام»، من خلال خطاب «القاعدة»، وقد اكتوت بلظاه جميع البلدان العربية الإسلامية.
حركة «لاهوت التحرير»: حركة دينية ظهرت في (ق20) في دول أمريكا اللاتينية؛ حيث حاولت أن تصوغ علاقة الإنسان بعالمه المادي والروحي صياغة جديدة، متأثّرة بالحركة اليسارية الماركسية، وقامت بقراءة الإنجيل قراءة ثورية؛ فترى في المسيح ليس مخلّصاً فحسب، بل محرراً للشعوب من الظلم والطغيان أيضاً، وقد سعى في عالمنا العربي، الدكتور حسن حنفي، إلى تبيئة هذا الاتجاه في البلدان العربية، لكنّ حجم تأثير هذه الدعوة، كما يبدو، ظلّ محدوداً.
وكما أشرنا آنفاً، هذا النوع من الإصلاح الديني في هذه البلدان من أمريكا اللاتينية، قد بلور مشروعه انطلاقاً من واقع ما تعانيه القارّة برمّتها من ظلم، وقهر، وفقر.
لقد أوردنا هذه الفقرة لإبراز أنّ المقصد النهائي من كلّ إصلاح، مهما كان نوعه، وفي أيّ بيئة كان، هو الإنسان، وأيّ إصلاح دينيّ يقتضي أن يكون ناتجاً عن جدل داخلي، بدلاً من استيراد نموذج قد لا يصلح في مجتمعاتنا، ذلكم – في نظرنا – ما يحتاج إليه عالمنا العربي، لكي يلج العصر الحديث.
على سبيل الختم:
يرتبط الإصلاح الديني بالدين؛ والدين من فعل الإنسان، والتديّن نشاط إنساني، لذلك، ومن هذا المنطلق، من غير الممكن القيام بإصلاح ديني دون فعل نقدي إنساني، ثمّ من غير الممكن أن يلغي الدين الإنسان. أمّا مقولة الإصلاح الديني، التي يظنّ البعض أنها تتعلق بأوربا فحسب، ولا علاقة لها بأديان أخرى، فغير صحيحة؛ لأنّ التاريخ يثبت أنّ الدين – على سبيل المثال – في التجربة الإسلامية شهد تغيّرات عديدة في تمثّلاته، وفي مفاهيمه حسب العصور، ما يشي بأنّ الإصلاح الديني حاجة إنسانية مستمرة، ومرافقة لمسيرة حياة الإنسان، وتدلّ على تفاعل الإنسان مع واقعه الثقافي، والاجتماعي.
لقد حاولت، قدر المستطاع، في هذا البحث، إبراز الدور المحوري للإنسان في أيّ عملية تستهدف التغيير، والإصلاح، من جهة، والأهمية القصوى لفهم حقيقة هذا الإنسان، والنظر الصحيح إليه من جهة ثانية. ثمّ تبيان أهمية الفعل النقدي في مقاربة مسألة الإصلاح الديني، والتغيير الثقافي، بغية تأسيس وعي وفهم جديدين للنصوص الدينية، تنبثق عنه قراءة حرّة للدين.
لعلّ الأنسب للإنسان المعاصر قراءةٌ إنسانية للدين تتواءم مع العصر، على عكس القراءة الفقهية للدين السائدة في بلداننا العربية والإسلامية؛ التي ارتبطت بواقع ثقافيّ لعصور سالفة. وبهذا الجهد، يتمّ تحويل (الظاهرة الدينية) إلى عامل بناء لأمتنا يسهم فيه جميع أفرادها دون إقصاء، ولا تهميش، بدل ترك الشأن الديني لمن هبّ ودب، من الذين يصادرون حقّ الآخرين في الاختلاف.
[1]– نشر ضمن مشروع “مقاربات معرفية في الإصلاح الديني”، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[2]– ينظر كتابه: الدين في الديمقراطية مسار العلمنة، ترجمة شفيق محسن، مراجعة بسام بركة، المنظمة العربية للترجمة، توزيع المركز العربي، لبنان، ط1، 2007م.
[3]– ينظر: ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث، د.محمد حدّاد، دار المدار الإسلامي، ط1، حزيران/يونيو 2007م، ص ص 239-240
[4]– المرجع نفسه، ص 243 وما بعدها، بتصرف.
[5]– لمزيد من التفصيل، ينظر في: باروت، محمد جمال، آلية التأثر لمفهوم الإصلاح البروتستانتي، الدولة والنهضة والحداثة، مراجعات نقدية، دار الحوار، اللاذقية، 2000م.
[6]– حدّاد، محمد، ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث، مرجع سابق، ص 242
[7]– بوحديبة، عبد الوهاب، الإنسان في الإسلام، دار الجنوب للنشر، تونس، 2007م، ص 22، بتصرف.
[8]– المرجع نفسه.
[9]– شريعتي، علي، الإنسان والإسلام، ترجمة عباس الترجمان، دار المصحف، ط1، 1211هـ، ص 18
[10]– أبعاد القراءة الإنسانية للدين، حوار مع محمد مجتهد سبشتري، قضايا إسلامية معاصرة، العدد 31-32، السنة العاشرة، 2006م، ص 47
[11]– حدّاد، محمد، ديانة الضمير الفردي، (م.س)، ص 28
عبد العزيز راجل ، عن مؤمنون بلا حدود